سنعرج في ورقتنا هذه عن السياسة اللغوية المنتهجة في دولة السودان كنوع من أنواع السياسات العامة منذ بداية عهد الإستعمار إلى يومنا الحالي .. و نسبة لأهميتها في تشكيل رؤية قومية موحدة.

 

مقدمة:
كما علمنا سلفاً ان السودان هو إحدى الدول التي تمتاز بالتعدد اللغوي الهائل، و ان هذا الأمر قد شكل تحدياً للجهات المسؤولة على مدى تاريخ السودان الحديث لإبتكار آلية صحية للتعامل مع هذا الكم من اللغات بإعتبار المحافظة عليها و تقويمها. و عليه .. يكون الجانب السياسي هو مربط الفرس فيما يخص تشكيل اللغة القومية؛ و ذلك لتضمنه مفاتيح المشاركة السياسية في السلطة و تقديم حقوق الأقليات اللغوية.

نعرف السياسة اللغوية على انها التجسيم الفعلي للأفكار، القوانين، الأحكام، و المبادئ، و هي الممارسات المقصودة لتحقيق التغيير في الخطة اللغوية الخاصة بمجتمع او نظام معين.

الخطة اللغوية هي عبارة عن نشاط يمارس عادة من قبل الحكومة، و تستهدف منه تعزيز نظام لغوي معين لتغيير معتبر في مجتمع المتحدثين بها.

خلفية تاريخية:
مرّ السودان الحديث منذ بداية الحكم الثنائي بمراحل عدة مؤثرة بصورة مباشرة و مقصودة على شكل السياسات اللغوية فيه، و بغض النظر عن مقبولية و عدم مقبولية هذه القرارات إلا اننا سنتطرق لها ولآثرها على الواقع بصورة عملية، آخذين في الإعتبار (سياسة المرحلة – السياسة اللغوية فيها – ونتيجتها و عوامل أخرى).

المرحلة الأولى (1920 – 1950م) : بذر فينا المستعمر في مطلع القرن العشرين بذرة الإختلاف والتباين، إنطلاقاً من سياسته المشهورة (فرق تسد) .. فأول ما فعله هو تشريع قانون المناطق المقفولة بجنوب السودان و فرض اللغة الإنجليزية للمعاملات بين السكان بالإضافة اللغات المحلية!، وأيضاً صار يشيع في (التبشير) بالمسيحية و إظهار العداء للعربية. على الرغم من افعاله إلا ان العربية قد انتشرت بصورة واسعة بعد إلغاء سياسة المناطق المقفولة، دون ذكر ان اللغات المحلية طوال 30 عاما لم تتطور.

المرحلة الثانية(1950 – 1956م) : في حين استعداد المستعمر للإستقلال، فقد كوّن كتلة حرجة من المثقفين و المجتمع المدني (الأحزاب السياسية) التي كانت أغلبيتها متحدثة بالعربية، و بها تم إعتماد العربية بأنها اللغة الرسمية للسودان. قوبل هذا الفعل بالرضا من قبل الشماليين، و على النقيض قوبل بالسخط من الجنوبيين، نسبة لعزلتهم الطويلة و إحساسهم بذواتهم بعيداً عن الشمال.

المرحلة الثالثة(1956 – 1972م): قبيل الإستقلال و نسبة للسخط نشأت حركة أنانيا 1 و قتلت من الشماليين ما قتلت بجوبا، و من هنا دارت الحرب في جنوب السودان و تحالف الشمال لا إرادياً كمسلمين و متحدثين بالعربية، و بما ان العربية هي اللغة الرسمية بعث الشمال نفسه محاولاً تعريب الجنوب و إدماجه في ثقافته.

المرحلة الرابعة(1972 – 1989م): بعد الحرب الطاحنة لسنين عقد نميري و جوزيف لاقو إتفاقية سلام بأديس أبابا وكانت بالفريدة من نوعها حيث اعترفت بالتباين الثقافي واللغوي بالسودان، ولكن لم يتم سن قوانين واضحة لحل الأزمة. ظلت العربية هي اللغة الرسمية ولكن تم اعتبار الانجليزية كلغة أساسية في الجنوب و يعلم بها الأطفال بالإبتدائية.
إشتعلت الحرب مجدداً في مطلع الثمانينات و توالت الحكومات والإتفاقيات حتى قادتنا إلى المرحلة المقبلة.

المرحلة الخامسة(1989 – 2004 م): استيلاء الإنقاذ على الحكم منطلقة من آيديولوجيا إسلامية معززة للثقافة العربية. بدورها أقامت مشروع تعريب التعليم العالي و حاربت الثقافة الغربية. و بالضرورة ظلت اللغة العربية هي اللغة الرسمية للسودان. و كرد فعل زادت وتيرة الحرب في الجنوب و مناطق أخرى كدارفور، أدت لنزوح الملايين من الريف للحضر، و مع تفشي الإعلام العربي و تقديم العربية على الثقافات الاخرى المختلفة، زاد العداء من الآخر تجاه التعريب وسياساته.

المرحلة السادسة والأخيرة(2004-2005م): إستهلكت الحرب في عدة جبهات حكومة السودان و المقاومة الجنوبية و الحركات المتمردة، مما دعى إلى وجوب إتفاق سلام بين الطرفين، تم فيه الإعتراف بالإختلاف الإثني و اللغوي بين سكان السودان. و جعل من العربية و الإنجليزية هما اللغتان الرسميتان للسودان كما نص في دستور السودان للعام 2005م :
تنص المادة 8 في ما يتعلق باللغة:
– البند 1/ جميع اللغات الأصلية السودانية لغات قومية يجب إحترامها وتطويرها و ترقيتها.
– البند 2/ العربية هي اللغة القومية الأوسع إنتشاراً في السودان.
– البند 3/ تكون العربية بإعتبارها لغة رئيسية على الصعيد القومي، و الإنجليزية لغتين رسميتين لأعمال الحكومة القومية، ولغتي التدريس في التعليم العالي.
– البند 4/ يجوز لأي هيئة تشريعية دون مستوى الحكم القومي أن تجعل من أي لغة قومية أخرى لغة عمل رسمية في نطاقها، وذلك إلى جانب اللغتين العربية والإنجليزية.
– البند 5/ لا يجوز التمييز ضد استعمال اي من اللغتين العربية والإنجليزية في اي مستوى من مستويات الحكم، او في اي مرحلة من مراحل التعليم.

النقاش:
عندما نححل بنية المجتمع السوداني ونستصحب دور السلطات الإجتماعية و الإقتصادية المهيمنة فيه من حيث ربط العمل باللغة، نجد ان المتحدثين بالعربية في السودان هم اليد العليا، و حسب إحصائيات 1993م يمثلون 73% من سكان السودان، مما يجعلها اللغة الأكثر إستخداماً بين السكان و رواجاً، لذلك وجب ان تكون في مقعد المرشح الأول لمنصب اللغة الرسمية. وذلك بالضرورة لا يعني إهمال اللغات الأخرى البتة .. فكما نص دستور السودان انه يجب احترام اللغات القومية الاخرى و تطويرها، وقد أُجيز إستخدامها في الهيئات التشريعية للمتحدثين باللغة المعينة.

  العربية النوبة البجا النوبيين دارفور غرب افريقيا جنوب السودان الفونج الأجانب أخرى
الإثنية 51.79 4.71 6.41 3.22 22.12 7.42 1.74 1.31 .77 .55
اللغة 73.48 2.49 4.55 .94 9.99 5.22 1.59 .74 .21 .43

الإنتماء الإثني واللغة الأم في شمال السودان حسب التعداد السكان لعام 1993م

و حتى لايكون هنالك تمييز او عملية تعريب غير مباشرة لأصحاب اللغات القومية، يمكننا الإقتداء بالتجربة الماليزية في التعامل مع هذا التباين، إذ تُدَرَس المواد في الحلقة الأولى باللغة القومية –للنوبيين مثلاً- و تدرس معها اللغة العربية كلغة ثانوية، و نكون هنا قد ساهمنا في المحافظة على هوية الطالب الإثنية و طورنا من لغته وأدرجناها في مناهج التعليم حتى اننا اخرطناه في الهم القومي للسودان. و في الحلقة الثانية تدرس اللغة العربية والإنجليزية و تدرس المواد بالعربية، لكي يمتلك الطالب القدرة على التعامل مع البيئة المغايرة و الإستفادة من العلوم الحديثة المقدمة بواسطة اللغة الإنجليزية-مثلاً-.  و في الحلقة الثالثة تدرس المواد العددية بالإنجليزية لأنها اللغة التي تنتج بها المعرفة، و تدرس بقية المواد بالعربية. و في التعليم العالي يكون التدريس بالإنجليزية في الكليات التطبيقية والعلمية، أما أصحاب السياق الأدبي فتدرس الإنجليزية كلغة ثانوية في محل ضرورة عصر.
مع ذكر ان فرض لغة على أخرى سيقلل من القدرة الإستيعابية عند المخاطب، و سيزيد من الفترة المتوقعة لتعلمه المادة المقدمة. و تبرز لنا تجربتان هما جنوب أفريقيا و تنزانيا ففي الأولى تم تحويل لغة التعليم من المحلية إلى الإنجليزية، و نتاجاً لذلك تدنت معدلات التحصيل الأكاديمي .. على عكس ما حدث في تنزانيا فقد تم تحويل لغة التعليم من الإنجليزية للسواحلية(المحلية) فشهدت إرتفاع ملحوظ في معدل التحصيل الأكاديمي.

و تجنباً لهندسة المجتمع لغوياً سيكون الدافع الذي يحركنا دوماً هو الدافع الأداتي .. أي اننا نعتمد عليها فقط في إكتسابنا للعلوم ،وذلك لرفع معدلات الانتاج و نؤكد بها ضمان التنمية و نزيد بها من وتيرة عجلة الإقتصاد.
كما ان التطوير والتحديث يتطلب سرعة النفاذ للمعلومات و تطبيقها و استثمارها، واللغة الإنجليزية هي اداة فعالة للولوج لهذه المعلومات وتطبيقها.

بعض المعضلات التي تواجه التخطيط اللغوي في السودان:
1- الغبن التاريخي والإصطفاف الإثني تجاه اللغة العربية متمثلة في سياسات الحكومات المتعاقبة، سيشكل عائقاً في إستشراف التخطيط اللغوي مستقبلاً.
2- التباين الثقافي والإثني الشاسع سيحول دون وضع منهجية علمية مضبوطة للتعامل معها كافة.
3- عدم الإستقرار السياسي المتمثل في إختلاف الرؤى بين الأحزاب والحركات المسلحة والحكومة.

المقترحات والتوصيات:
1- تطبيق المادة 8 من دستور السودان و تشكيلها في القوانين المختلفة للدولة.
2- العمل على ادراج اللغات بنسب معقولة في الوسائط الإعلامية المختلفة.
3- السعي لتشكيل الأقليات داخل مؤسسة الدولة، و الحث على المشاركة السياسية لتوحيد الرؤية.
4- إستيعاب لغات الأقليات في المنهج التعليمي في المناطق الريفية التي يقطنون.

مراجع:

1-تخطيط السياسات اللغوية في السودان:نيفاشا نموذجاً – أشرف كمبال عبد الحي
(البحث باللغة الإنجليزية)
2-السياسة اللغوية خلفياتها و مقاصدها – جيمس.و. طوليفصون- ترجمة محمد خطابي


Fatal error: Uncaught Exception: 190: Error validating application. Invalid application ID. (190) thrown in /home/clients/ed3c6347dbe4ca3a4321eb32fe384a07/arablog/wp-content/plugins/seo-facebook-comments/facebook/base_facebook.php on line 1273